ككلَّ عامٍ، مع اقترابِ الإعلانِ عن جائزةِ نوبل للآدابِ، تتجدَّدُ طقوسُ "الزَّفَّةِ الأدبيَّةِ" التي يُقيمُها مُريدو الشَّاعرِ أَدُونِيس، فتتحوَّلُ وسائلُ الإعلامِ ومواقعُ التَّواصلِ إلى ساحةِ احتفاءٍ مُسبَقٍ، وتكهُّناتٍ ترقى إلى مصافِّ اليقينِ. ثُمَّ، وكما في كلِّ مرَّةٍ، يأتي الإعلانُ حَامِلًا اسْمًا آخرَ، ليُخلِّفَ وراءَهُ خيبةً لم تعُدْ صدمةً؛ بل أصبحتْ جُزْءًا من المشهدِ الثَّقافيِّ المُعتادِ، مَشْهَدًا اعتادَهُ المُريدونَ على مدى عقودٍ طويلةٍ حتَّى أَلِفوهُ.
.
*هكذا يُصبحُ الانتظارُ طَقْسًا، والخيبةُ إِرْثًا، والأملُ مجرَّدَ عادةٍ سنويَّةٍ باهتةٍ*.
.
مذ وعيتُ وأنا في بلاطِ الصَّحافةِ والإعلامِ، وهذا السِّجالُ يتكرَّرُ. وقد أدركتُهُ في ثمانينيَّاتِ القرنِ الماضي في صحافتِنا المحليَّةِ، حينَ كانَ مُشرفو معظمِ الصَّفحاتِ الثَّقافيَّةِ؛ هم ممَّنْ تأثَّروا بهِ من قريبٍ أو بعيدٍ، وذهبَ بعضُهم إلى ترميزِهِ بوصفِهِ نبيَّ/عراب الحداثةِ، مُتَسَاوِقًا مع توجُّهِ جماعةِ مجلَّتَيْ "شِعر" و"مواقف"، من أمثالِ يوسف الخال، ومحمد الماغوط، وخليل حاوي، وخالدة سعيد. ولم ينجُ -برأي المراقبين- من تلكَ الهَبَّةِ آنَذاكَ إلا صفحاتُ جريدةِ "النَّدوةِ"، ومُلحقُ "الأربعاءِ".
.
*حَقًّا: حينما تحتكرُ فئةٌ ما تعريفَ الجمالِ، فإنَّها لا تصنعُ ذَوْقًا، بل تبني سِجْنًا للرُّؤى.*
.
وإذ أخطُّ هاتهِ السُّطورَ، لتكادُ تَرْتَسِمُ أمامي وجوهُ أولئكَ الزُّملاءِ، متسائلًا: *هل ما يزالونَ على قناعتِهم وتولُّهِهم بأَدُونِيس وتلكمُ الأسماءِ، أم هو العُمرُ الذي يجعلُنا نُبصرُ ما غطَّتْهُ حماسةُ الشَّبابِ؟*
حاول أحدُهم-وقد أدركته وَخزةُ ضَميرٍ-كتابةَ شهادتِهِ عن تلكَ المرحلةِ بكلِّ شفافيَّةٍ وصدقٍ، إلَّا أنَّهُ جُوبِهَ بعتابٍ من رِفقَتِهِ، فأمسكَ القلمَ بعدَ تغريداتٍ كانتْ ومضةَ شجاعةٍ.
.
*العُمرُ هو المِحَكُّ الأخيرُ الذي يكشِفُ زيفَ الأصنامِ التي قدَّسناها في يفاعاتِنا الفكريَّةِ*.
.
دعوني أسوقُ لأولئكَ النَّفرِ، ممَّنْ ما زالوا على عهدِهم الفكريِّ ذاكَ، ما حدثَ إبَّانَ استضافةِ جامعةِ الطَّائفِ لأَدُونِيس في مارس 2023م، ضمنَ فعاليَّاتِ "عامِ الشِّعرِ العربيِّ" الذي أطلقتْهُ وزارةُ الثَّقافةِ السُّعوديَّةِ.
.
إذ يروي لي صديقٌ أثيرٌ، ذو مكانةٍ علميَّةٍ مرموقةٍ، أنَّهُ رافقَ الشَّاعرَ نفسَهُ في زيارةٍ تاريخيَّةٍ إلى مكَّةَ المكرَّمةَ. هناكَ، في رحابِ الحرمِ المكِّيِّ، وقفَ الرَّجلُ الذي طالما ارتبطَ اسمُهُ بالأسئلةِ الوجوديَّةِ الكُبرى والتَّمرُّدِ الفكريِّ، وصلَّى في حِجْرِ إسماعيلَ، *طَالِبًا بإلحاحٍ ألا يلتقطَ لهُ أحدٌ صورةً في تلكَ اللَّحظاتِ الخاشعةِ.*
.
لقد رآهُ الصَّديقُ رأيَ العينِ وهو يناجي ربَّهُ، في مشهدٍ يلقي ظِلًّا إِنْسَانِيًّا كَثِيفًا على الصُّورةِ النَّمطيَّةِ الرَّاسخةِ عنهُ، ويفتحُ البابَ على مصراعيهِ لتأمُّلِ التَّحوُّلاتِ الخفيَّةِ في دواخلِ النَّفسِ البشريَّةِ.
.
*يا لله! في حضرةِ الصِّدقِ الأبديِّ، تضمحلُّ "الأنا" وتتلاشى ظلالُ الكبرياءِ، فلا يبقى إلا الإنسانُ عاريًا بهشاشتِهِ أمامَ خالقِهِ*.
.
لستُ نَاقِدًا أَدَبِيًّا، ولا أدَّعي التَّخصُّصَ فيهِ، إنَّما أنا إعلاميٌّ متذوِّقٌ للأدبِ وقارئٌ نَهِمٌ، ومن هذا المنطلقِ أُدلي برأيي الشَّخصيِّ حيالَ "ظاهرةِ أَدُونِيس"، التي أراها تكمنُ في هالتِهِ الإعلاميَّةِ أكثرَ من كونِها أَثَرًا إِبْدَاعِيًّا يستحقُّ أرفعَ الجوائزِ العالميَّةِ.
.
وكم كنتُ حَفِيًّا وأنا أقرأُ بالأمسِ مقالةً قديمةً للنَّاقدِ والباحثِ اليمنيِّ الدُّكتورِ قائد غيلان، فوجدتُ فيها ما يصادقُ على قناعةٍ راسخةٍ لديَّ منذُ سنواتٍ. المقالةَ كُتِبَتْ في أكتوبر من عامِ 2020م، قالَ فيها بحدسٍ نافذٍ وجزمٍ قاطعٍ: "لم تصِلْ جائزةُ نوبل إلى أَدُونِيس ولن تصِلَ إليهِ، إنَّهُ مجرَّدُ ظاهرةٍ إعلاميَّةٍ ضُخِّمَتْ كَثِيرًا حتَّى على الشَّاعرِ نفسِهِ... إنَّهُ شخصيَّةٌ تستثمرُ الضَّجيجَ وتتكئُ على مجدٍ وهميٍّ لا يمكنُ أن يتحوَّلَ إلى إبداعٍ حقيقيٍّ".
.
*الهالةُ لا تصنعُ النبوغَ، بل تُخفيهِ أَحْيَانًا… والضَّجيجُ لا يُعوِّضُ عن قوَّةِ المتنِ وغيابِ الأثرِ*.
.
إنَّ هذا الرَّأيَ ليسَ وليدَ انطباعٍ عابرٍ، بل هو توصيفٌ دقيقٌ لما ترسَّخَ على مدى أربعةِ عقودٍ. فمنذُ بزوغِ نجمِهِ، هلَّلَ لهُ مُريدوهُ من الحداثيِّينَ، ونفخوا في صورتِهِ حتَّى تحوَّلَ إلى أيقونةٍ مقدَّسةٍ، وهو ما يؤكِّدُهُ الدُّكتورُ غيلان بقولِهِ: *"أَدُونِيس صنيعةٌ إعلاميَّةٌ لمَّعَتْهُ المجلَّاتُ الحداثيَّةُ مثل مجلَّةِ شِعر ومواقف... لقد لعبَ أصدقاءُ أَدُونِيس من الحداثيِّينَ دَوْرًا كَبِيرًا في جعلِهِ كعبةَ الحداثةِ الشِّعريَّةِ التي لا يمكنُ المساسُ بها".*
.
برأيي أنَّهم بنَوا لهُ كعبةً من ورقٍ، وطافوا حولَها، *ونسُوا أنَّ القِبلةَ الحقيقيَّةَ للشِّعرِ هي ذلكَ التَّجلِّي الذي يُشرقُ في الرُّوحِ فتهتزُّ طَرَبًا، لا أحاجيَّ الغموضِ المُتعاليةِ*.
.
ومن أمانةِ الكلمةِ أن نُنصِفَ الرَّجلَ؛ فحتَّى خصومُهُ الفكريُّونَ يُجمعونَ على مَكْنَتِهِ اللُّغويَّةِ وثراؤُهُ المعرفيُّ. وقد وقفَ كاتبُ هذهِ السُّطورِ أمامَ كتابِهِ الشَّهيرِ "الثَّابتُ والمتحوِّلُ" منذهلًا من ذلكَ العمقِ، وهو الكتابُ الذي عدَّهُ كثيرٌ من المتخصِّصينَ علامةً فارقةً في الدِّراساتِ الفكريَّةِ العربيَّةِ الحديثةِ.
.
بيد أنَّ المَكْنَةَ اللُّغويَّةَ وحدَها لا تصنعُ أَديبًا أو مُفَكِّرًا أو شَاعِرًا يستحقُّ نوبل، خاصَّةً حينَ نقارنُهُ بشعراءَ ربَّما فاقوهُ في الصِّدقِ الفنِّيِّ وعمقِ التَّجربةِ الإنسانيَّةِ، أولئكَ الذينَ كانوا يكتبونَ من رحمِ المعاناةِ، بينما بدا أَدُونِيس في كثيرٍ من الأحيانِ وكأنَّهُ يكتبُ من برجٍ عاجيٍّ، مُنَظِّرًا للشِّعرِ أكثرَ من كونِهِ مُنصهرًا في بوتقتِهِ.
.
*العدالةُ الأدبيَّةُ ليستْ عاصفةَ الهتافِ التي ترفعُ اسْمًا اليومَ وتنساهُ غدًا، بل هي ذلكَ الأثرُ الذي حفرتْهُ الكلماتُ في الوجدانِ ورعاهُ الضَّميرُ*.
.
إنَّ القضيَّةَ في جوهرِها ليستْ في أَدُونِيس نفسِهِ، بل في "الفقَّاعةِ الإعلاميَّةِ" التي صنعَها مُريدوهُ حولَهُ.
لقد خلقوا لهُ صورةَ النَّبيِّ الحداثيِّ الذي لا يأتيهِ الباطلُ من بينِ يديهِ ولا من خلفِهِ، حتَّى صارَ مجرَّدُ ترشيحِهِ لنوبل خَبَرًا في حدِّ ذاتِهِ، يُعادُ تدويرُهُ سَنَوِيًّا.
.
في المقابلِ، يزخرُ الأدبُ والفكرُ العربيُّ بأسماءٍ كانتْ أولى بالتَّكريمِ، ويحضرُني منهم على سبيلِ المثالِ لا الحصرِ: الرِّوائيُّ العالميُّ أمين معلوف، والمفكِّرُ الكبيرُ الرَّاحلُ محمد عابد الجابري، وأبو فهرٍ محمود محمد شاكر، وطه عبد الرَّحمن، وعبد الله الطَّيِّب، بل إنَّني أذهبُ إلى أولويَّةِ نزار قبَّاني شَاعِرًا جَمَاهِيرِيًّا عليهِ، بينما يظلُّ طيفُ أَدُونِيس مُعلَّقاً، ليسَ بقوَّةِ إبداعِهِ، بل بقوَّةِ الدَّفعِ الإعلاميِّ.. للأسف أن نوبِلْ تُمنَحُ للأحياءِ، وقد فاتَتْ على أولئكَ الأَفْذاذِ.
.
*يا سادة: الإعلامُ يصنعُ مشاهيرَ اللَّحظةِ، لكنَّ التَّاريخَ وحدَهُ هو من يختارُ الخالدينَ.*
.
في خاتمةِ المطافِ، قد يكونُ مشهدُ صلاةِ أَدُونِيس في حِجْرِ إسماعيلَ هو المشهدَ الأكثرَ صِدْقًا وأبلغَ تَعْبِيرًا عن الرَّجلِ خلفَ الأسطورةِ؛ إنسانٌ يبحثُ عن طمأنينتِهِ الخاصَّةِ، بَعِيدًا عن ضجيجِ الجوائزِ وصخبِ المُريدينَ.
.
*في النِّهايةِ: لربَّما كانتْ كلُّ قصائدِ التَّمرُّدِ مجرَّدَ رحلةٍ طويلةٍ للبحثِ عن سجدةٍ واحدةٍ صادقةٍ.
بقلم: عبدالعزيز قاسم
اعلامي وكاتب صحفي
14 10 2025

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..