الخميس، 12 يوليو 2012

تحولات الإسلاميين..!



 
رصد الظواهر الاجتماعية أو التحولات الإنسانية تبدو عملية مضنية وجهد يغلبه المشقة، فضلاً أنها محفوفة بالأخطاء وملغمة بالهفوات، خاصة ً إذا كانت تلك الظواهر أو التحولات مرتبطة بالتوجهات الفكرية لشخصيات،
أو المسيرات التاريخية لجماعات أو حركات، أو سير ذاتية لفئات نخبوية لازالت تعمل على مسرح الواقع، سواءً ما يتعلق بمنطلقاتها الدينية، أو خلفياتها الثقافية، أو مواقفها السياسية، أو تصوراتها الحضارية.

الأستاذ وليد بن عبدالله الهويريني، كاتب وباحث شرعي له إسهامات ثرية وعميقة في مناقشة واقع التيارات الإسلامية والليبرالية، سواءً على مستوى الرؤية النقدية أو المراجعة الفكرية، بما في ذلك الطيف السلفي ضمن التيار الإسلامي العريض، وله في ذلك إصدارات أذكر منها (أوراق سلفية إصلاحية)، و(تحولات الإسلاميين)، والإصدار الأخير هو موضوع مقالي هنا، فهذا الإصدار يمثل جهداً فكرياً مميزاً، وسجلاً تاريخياً قيماً للقراء في قادم الأيام بمشيئة الله، كونه يؤرخ لفترة مهمة في تاريخنا المحلي من جانبه الفكري. غير أن هذا العمل لم يسلم من بعض الأخطاء والتصورات غير الصحيحة على الأقل من وجهة نظري، محاولاً استعراضها هنا في سياق نقاشي لكثير من محتويات الكتاب وأفكاره الرئيسة، وذلك من خلال نقاط معينة تسهيلاً للفهم ووصولاً للمعنى المنشود. ولكن قبل هذه المناقشة لابد من إعطاء القارئ تعريفاً مختصراً أو لمحة مبسطة عن كتاب (تحولات الإسلاميين)، كي تتضح لديه وجهة نظري في نقاط المناقشة.

كتاب (تحولات الإسلاميين) يقع في 133 صفحة من القطع المتوسط، والصادر عن مجلة البيان، ويتناول فيه المؤلف الأستاذ وليد الهويريني بالرصد والتحليل والاستنتاج تحولات طرأت على مجموعة من الإسلاميين، سواءً كانوا كتاب رأي أو مثقفين أو دعاة أو طلبة علم شرعي ومشايخ، وذلك خلال فترة زمنية حددها من يوم حادثة تفجيرات نيويورك في الحادي عشر من سبتمبر 2001م، وحتى يوم اندلاع ثورات ما يسمى الربيع العربي في السابع عشر من ديسمبر 2011م، وقد قسم تلك التحولات إلى (إيجابية، وسلبية، وملتبسة)، مع استعراض أسبابها ومعطياتها وفقاً لمرجعية فكرية اعتبرها في الفهم السعودي للسلفية. وعليه فنقاط مناقشتي هي كالتالي:

* أولاً: إشكالية تحرير المصطلحات

من أبرز الإشكالات التي تواجه المؤلفين في القضايا الفكرية هي (المصطلحات)، وهم على فئتين، فئة تتعامل معها دون تحريرها أو على الأقل تبسيطها مفترضةً وعي القارئ، كونها تخاطب طبقة مثقفة أو نخبة فكرية أو شريحة علمية، وفئة أخرى تحررها بخلاف مضمونها أو مفهومها حسب خلفيتها المعرفية، أو لهدف توجيه فهم القارئ نحو النهايات التي تريدها، وبتقديري أن الأستاذ الهويريني من الفئة الأولى، التي تراهن على وعي القارئ فإصداره للنخبة وليس للعامة. لكن هذا لا يمنع من تحرير المصطلح، خصوصاً أن هناك مصطلحات لازالت ملتبسة وضبابية لدى المثقف العربي والسعودي تحديداً، وأعني هنا المصطلحات الشائعة إعلامياً (كالصحوة، والسلفية، والتنوير، والليبرالية وغيرها)، وبالذات (الصحوة الإسلامية)، حيث وقع الأستاذ وليد في خطأ طالما وقع فيه كتاب ومثقفين ومفكرين وهم يتناولون هذه المسألة، وذلك باختزال الصحوة في فترة زمنية محددة قد لا تتجاوز 30 عاماً، أو التعامل معها بأفق محلي بحصرها في حركة التدين، التي سرت في المجتمع السعودي خلال العقود الأخيرة، بينما الصحوة الإسلامية حركة شاملة في كل العالم الإسلامي، وعمرها يبدأ من أواخر عصر الخلافة العثمانية أي في نهاية القرن التاسع عشر الميلادي وتمتد حتى يومنا هذا، وقد مرت بمراحل أبرزها مرحلة (الإحياء الإسلامي)، و(مقاومة الاستعمار)، و(الشيوع الإعلامي)، و(الانكفاء الداخلي)، ثم (العمل السياسي). وقس على ذلك مصطلح (الليبرالية)، الذي ُيكرره المؤلف لوصف التيار الليبرالي أو الليبراليين السعوديين، وكأنه ُيقرر حقيقة واقعية بوجود ليبرالية سعودية أو ليبراليين سعوديين، والصحيح أن هناك أدعياء ليبرالية!! إضافة إلى باقي المصطلحات الأخرى التي سيتم بيانها خلال باقي نقاط المناقشة.

* ثانياً: تقسيم تحولات الإسلاميين

يشير المؤلف إلى أن فكرة تقسيم تحولات الإسلاميين المشار إليها سلفاً، هي (مقتبسة) من مداخلة للشيخ سلطان العميري في حلقة نقاش (التحولات الفكرية رؤية نقدية)، وكان الأفضل أن يضع المؤلف تقسيمه هو، الذي ُيعبر عن رؤيته لهذه التحولات! كما أنها برأيي تُصنف على أنها (تحولات غير دقيقة)، لأن المؤلف اعتمد فيها على (الفكر السلفي) كمرجعية لتحديد أنواع تلك التحولات والحكم عليها، خاصةً بالنسبة للنوع الثاني من التحولات وهي (تحولات ملتبسة)، كونه اعتبر واقعة الالتباس بين فريق يرى تحول الإسلاميين إيجابياً، وآخر يراه انتكاسة وفقاً لمعيار السلفية. بينما السلفية بحد ذاتها لازالت لدى البعض اليوم مفهوماً ملتبساً أو على الأقل غير محدد، فهل القصد فيها (سلفية الصحابة والتابعين) بما يعرف القرون المفضلة، أم يشمل (سلفية الأمة عبر كل عصورها قبل العصر الحديث)، بل حتى طبيعة السلفية أيضاً غير محددة، فهل هي منهج أم مذهب أم ماذا؟.. وعليه يمكن القول بغياب اعتماد المرجعية الفكرية لقياس هذا التحول، لأن ما يراه تحولاً إيجابياً قد لا يكون كذلك، والحال ينسحب على ما يراه سلبياً أو ملتبساً يكون عند الآخرين عكس ذلك.

* ثالثاً: أسباب تحولات الإسلاميين

أرجع المؤلف الهويريني أسباب تحولات الإسلاميين إلى جملة أسباب أبرزها (تعثر مسيرة الصحوة)!! فإضافة إلى إشكالية مصطلح الصحوة الذي أشرت إليه سلفاً.. لا تدري كيف حكم على أن هذه الصحوة تعثرت مسيرتها! وما طبيعة هذا التعثر فكري أم سياسي أم ماذا؟.. خاصةً أنه حدد القياس الزمني لتحول الإسلاميين بفترة لا تتجاوز 10 سنوات، ولشريحة من الإسلاميين في المملكة!! رغم أن وضع الصحوة اليوم عكس تماماً وصف التعثر قياساً بما حققه الإسلاميين على صعيد العملية الانتخابية السياسية في كثير من البلدان العربية (مثال تركيا وباكستان والمغرب والكويت وفلسطين)، والعملية الانتخابية البلدية في المملكة قبل سنوات. أما مقولة (جيل ما بعد الصحوة)، التي ذكرها المؤلف في سياق حديثه عن أسباب تحولات الإسلاميين، فهي مقولة تقرر أن الصحوة انتهت، وهذا غير صحيح بدلالة رياح الأسلمة التي تجتاح الوطن العربي، وتحول خط الصحوة من الفكر إلى السياسة. سبب آخر ذكره هو (رحيل الرموز الكبرى)! ويقصد بذلك الشيخين عبدالعزيز بن باز ومحمد بن عثيمين -رحمهما الله-، وهما لا شك يتمتعان بمكانة كبيرة ورمزية عالية وجماهيرية معتبرة، ولكن وجود الرموز الدينية عموماً يمكن أن ُيقلل من آثار التحول أو ُيخفف من درجته، أو طبيعته، ولكن لا يمكن منعه، لأن التحول الفكري مرتبط بالحركة التاريخية للمجتمع وهي بالأساس مرتبطة بالمستجدات الفكرية والتطورات الإعلامية والمنتجات المادية، التي دخلت على حياة المسلمين بما فيهم السعوديين. سبب ثالث ساقه المؤلف هو حادثة سبتمبر 2001م! حيث اعتبر أن هذه الحادثة العالمية كانت فرصة لخصوم السلفيين من ليبراليين وعلمانيين لتصفية النفوذ السلفي في المملكة، وهذا تصور غير دقيق، إنما كانت فرصة لمحاكمة الظاهرة الإسلامية على مستوى العالم مع اتفاقنا على أن السلفية نالت القدر الأكبر من هذه المحاكمة، التي جرت على ثلاث محاور (المجال السياسي، والطرح الفكري، والعمل الخيري)، وقد بدأت ماكينة الإعلام الغربي مدعومةً بالمؤسسات السياسية الغربية في هذه المحاكمة، ثم تبعه الإعلام العربي بمفكريه وكتابه ونخبه، بما في ذلك جهات من الإعلام السعودي غير الرسمي.

(الانفتاح المعلوماتي) عدّه المؤلف سبباً لتحول الإسلاميين، لأنه يرى أن انفتاح المعلومات وتدفقها عبر وسائط التقنية ووسائل الاتصالات قد سهل ارتباط الأجيال بالقصص والروايات والمؤلفات الفكرية ذات المفاهيم الليبرالية، وهذا صحيح نوعاً ما، ولكن ليس على إطلاقه فهذا الانفتاح ليس سلبياً تاماً، إنما يحمل جوانب إيجابية منها أنه حرر المعلومة وأثرى الآراء وفتح آفاق الحوار بين كل التيارات الفكرية، بدلالة أن هناك إسلاميين استفادوا منه بشكل كبير في حماية الظاهرة الإسلامية من التشويه الفكري والدعاية لها لدى الأجيال.. أيضاً من الأسباب المهمة في تحولات الإسلاميين التي قررها المؤلف، (تركيز بعض الإسلاميين على منهج الحفظ والتلقين)، فبنظره أن بعض المحاضن التربوية تبنت المنهج التلقيني فخرج شباب متدين يعاني هشاشة فكرية، ما أدى إلى تحول هؤلاء الشباب إلى أدوات في خصوم الدعوة، والصحيح أنه ليس شرطاً، فعدم الأخذ بهذا المنهج يعني تحول الشباب إلى منهج التفكير والرأي، وهذا ما فعله شباب الصحوة. كما أن مشكلة الحفظ والتلقين هي مشكلة عامة في كل التعليم، سواءً الديني أو الطبيعي وتعاني منها جميع التيارات الفكرية.

* رابعاً: المجموعة التنويرية

في إطار حديث المؤلف وليد عن التحولات السلبية أشار المؤلف إلى إسلاميين وصفهم بـ(التنويريين)، يقول: (هذه المجموعة اصطلح على تسميتها بالتيار التنويري أو العصراني في الداخل السعودي).. أفهم أن يُوصف هؤلاء الإسلاميين بـ(التيار العصراني) أو العصرانيين، لكن لا أدري من أين جاء بتقرير أنهم (تيار تنويري) وكيف تم هذا الاصطلاح؟.. لأن (التنوير) مصطلح غربي له دلالة ومضامين فكرية تتعارض مع توجهات هؤلاء الإسلاميين، الذين يتخذون الإسلام مرجعية ويمازجون بين تشريعاته وروح العصر، بينما التنوير يُعلن القطيعة مع الدين تماماً ويؤله العقل ويعتبره المرجعية التي تصوغ كل ما هو وضعي.. ثم حدد سمات هذه المجموعة، وهي أنها تقدم النموذج الديمقراطي، وتدعو إلى حرية الرأي، كما تصوغ صورة سلبية نمطية عن التيار السلفي!! وهذه السمات تنطبق -في حقيقة الواقع- على خصوم السلفية من ليبراليين وعلمانيين ويسار!!.

* خامساً: بين الملتبسة والإيجابية

بعد أن عرّف المؤلف الهويريني التحولات الملتبسة وضع أهم معالم خطاب هذه الشريحة من الإسلاميين من أصحاب هذه التحولات وهي غلبة العمومية والضبابية في مواطن تتطلب الوضوح في مجال الصراع الليبرالي الإسلامي، وفي مجال الخطاب المحايد من المقاومة والتسوية، وفي مجال الحياد بين الشريعة وخصومها، وطغيان لغة التعايش مع الطوائف الأخرى مع غياب قواعد مشروع التعايش وضعف لغته، والإفراط في جلد المجتمع واختزال تصوير الواقع، والاضطراب في عرض موقف المسلم. كما يشير إلى أن أصحاب التحولات الملتبسة لهم موقف محايد من الهجمة على السلفية وأحياناً تم توظيفهم ضدها! وبتقديري أن الرؤية هنا وبمعايير السلفيين ليست ملتبسة، بل واضحة ويمكن تصنيفها بالسلبية، أما بمعيار القارئ المتجرد فهي تحولات متباينة. والحال كذلك بالنسبة لتحديده التحولات الإيجابية التي وصفها أنها تفاعل الإسلاميين الإيجابي مع التحديات المستجدة وهذه من الممكن أن تنطبق على جميع فئات الإسلاميين حتى أولئك، الذين اعتبرهم المؤلف تنويريين (عصرانيين)، لأنهم يواجهون ذات التحديات الحضارية ولكن يتعاملون معها بمفاهيم وأدوات أخرى، خاصةً أنه ذكر معالم التحولات الإيجابية، منها: شيوع الاهتمام بالقضايا الفكرية، وازدياد مظاهر العمل المؤسسي، والفاعلية في المشاركة على الشبكة العالمية الإلكترونية وغيرها.


محمد بن عيسى الكنعان

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..